
مرة أخرى تتصدر غازي عنتاب المشهد مع مهرجان GastroAntep. ففي المؤتمر الصحفي الذي عقدته رئيسة بلدية غازي عنتاب الكبرى فاطمة شاهين، لم يكن ما قالته مجرد حديث عن مهرجان، بل كشف عن رؤية شاملة.
المثال الذي ضربته شاهين عن "اليُوَلَمة" بقي عالقاً في ذهني. فالمسألة ليست مجرد أرز أو لحم أو حمص. اليُوَلَمة هي جلسة تجمع الجيران، يتبادلون فيها الهموم، ويشاركون بعضهم البعض، وتتحول إلى ما يشبه جلسة علاج جماعي. ما يشرحه علماء النفس اليوم في جلسات العلاج، كانت جداتنا يمارسنه وهنّ يعجنّ كرات اليُوَلَمة. وهذا بالضبط ما تم رفعه إلى اليونسكو: فلسفة المطبخ التي لا تخاطب المعدة فقط، بل الأرواح أيضاً.
لكن لا يجب أن نتوقف هنا. فقول فاطمة شاهين: "منافسنا ليس مرعش، بل سان سيباستيان" كان لافتاً. وهذا صحيح. غازي عنتاب لم تعد في سباق مع المدن المجاورة، بل باتت تنافس في "الدوري الكبير" للمطابخ العالمية. إسبانيا تستثمر المليارات في فنون الطهو، اليابان تجني 10 مليارات دولار سنوياً من خمسة منتجات زراعية فقط، وفرنسا تروي حكاية المائدة منذ القرن السادس عشر. أما نحن فما زلنا بلا "قصة مكرونة" عالمية، ولا مطعم تركي دخل قائمة "أفضل 50 مطعماً في العالم".
إيطاليا لديها 900 منتج مسجل، أما نحن فحوالي 50 فقط. إسبانيا تملك 400 مليون شجرة زيتون، بينما لدينا 200 مليون. هم يحققون 180 مليار دولار سنوياً، ونحن لم نصنع بعد علامتنا التجارية. القضية ليست مطبخاً فقط، بل زراعة، ولوجستيك، وعلامات تجارية، وسياسة دولة.
وكما يقول البروفيسور تشَتين شنكول: "الزراعة الصحيحة، الغذاء الصحيح، الغاسترونومي الصحيح." ما لم نكمل حلقات هذه السلسلة، فلن يكون من السهل نقل ذاكرتنا المطبخية الممتدة 12 ألف عام إلى العالم.
وهنا تبرز أهمية تصريحات والي غازي عنتاب كمال تشيبر، الذي شدد على أن هذا المهرجان هو ثمرة جهد فاطمة شاهين، وأن كل مكونات المدينة تبنته. وبالفعل، كل مؤسسات المدينة وضعت يدها في يد الأخرى، وهذا التضامن هو القوة الحقيقية لرحلة غازي عنتاب نحو العالمية.
لكن بالمقابل، هناك ما يبعث على الأسى. قبل أيام فقط، أثارت قضية محل جزارة يحمل اسم "Et Bankası" (بنك اللحم) ضجة كبيرة على مستوى تركيا بسبب بيعه لحوماً فاسدة. أن يحدث ذلك قبيل مهرجان مثل GastroAntep الذي يرفع من معنويات المدينة ويعزز صورتها، فهذا أمر مؤسف للغاية. فغلطة شخص واحد قد تسيء إلى جهد سنوات.
إن "فضيحة بنك اللحم" تجسد هذا الخطر. فالأمر ليس مجرد لحم فاسد، بل ثقة العالم بما تقدمه غازي عنتاب. فرنسا على سبيل المثال روجت لمطبخها عبر قرون ليس فقط بالنكهات، بل بالانضباط والقوانين. إيطاليا بنت سلسلة مترابطة من الزراعة حتى الطهو. اليابان جعلت خمسة منتجات زراعية مشروع دولة ونجحت في تسويقها عالمياً. أما نحن فما زلنا نقاتل بسبب غش جزار.
من هنا، ينبغي النظر إلى مهرجان GastroAntep على أنه أكثر من مجرد فعالية؛ إنه واجهة غازي عنتاب نحو العالم. ولهذا، يجب أن يكون خلفه إصرار على محاربة كل أشكال الغش بلا أي تساهل. وإلا فإن سنوات من الرؤية والعمل قد تنهار في لحظة.
مطبخ غازي عنتاب، بذاكرته الممتدة إلى 12 ألف سنة، يملك إحدى أقوى الحكايات في العالم. لكن يجب أن نتذكر أن ما سيحمل هذه الحكاية إلى المستقبل ليس الطعم وحده، بل الثقة والانضباط والصدق أيضاً.
وأنا على يقين أن المدينة التي أوصلت "اليُوَلَمة" إلى اليونسكو، قادرة على أن تنافس سان سيباستيان وطوكيو وباريس أيضاً. شريطة أن ننظر إلى مطبخنا باعتباره أكثر من مجرد مطبخ، وأن نولي كل تفصيلة فيه نفس القدر من العناية.
موعدنا بين 13 و21 أيلول/سبتمبر 2025 في مهرجان GastroAntep Kültür Yolu، حيث الدعوة مفتوحة لكل من هو جائع بالبطن والروح.
جزيل الشكر لرئيسة بلدية غازي عنتاب الكبرى فاطمة شاهين على جهدها ومثابرتها.
ابقوا بخير
Arif KURT / غازي عنتاب
4 أيلول 2025