ذهب الشعب القبرصي التركي إلى صناديق الاقتراع، وبمشاركة مرتفعة وفارق واضح، أوصل توفان إرهمان إلى رئاسة الجمهورية. كانت إرادة الشعب صافية، ورسالتُه واضحة. لكن قبل أن تصل هذه الرسالة إلى الإعلام التركي، جرى تحريفها وتصغيرها في الطريق.
لقد شاهدنا مجددًا تلك “الغطرسة القبرصية” التي اعتدناها من الإعلام التركي.
فمنهم من تحدث بنبرة “ها قد كبرت يادوْلتي الصغيرة وصارت تختار لنفسها رئيسًا”، ومنهم من زملائي الذين لم يطأوا قبرص في حياتهم إلا لأجل القمار، يقدّمون “تحليلاتهم العميقة” عن السياسة القبرصية بكلماتٍ لم أصدق أني أسمعها!
الشاشات والصفحات امتلأت بهؤلاء.
بعضهم قال: “يجب ألا يُنتخب إرهمان، إن فاز فستضيع قبرص، سينتصر الخونة، سيتعاون مع الروم، وسيطعننا في الظهر.”
في أيام “تشريف” فُليا أوزتورك لجزيرتنا بتغطيتها عبر CNN Türk، تحياتي أيضًا للمحرر الذي كان يكتب تلك العناوين السفلية الشهيرة على الشاشة.
أما القسم الآخر فكان على النقيض تمامًا:
كانوا يقولون “ليُنتخب إرهمان، فهذا سيكون صفعة قوية لحزب العدالة والتنمية.”
وما كتبوه في الغالب لم يكن سوى تعبير عن معارضتهم لأنقرة، وعن نوع من التنفيس السياسي لأنفسهم.
بالطبع، أستثني من هذا المشهد الصحفيين الذين يعرفون قبرص جيدًا، ويتابعونها منذ سنوات، ولهم تواصل حقيقي مع زملائهم المحليين.
لكن بشكل عام — سواء في الإعلام التقليدي أو في وسائل التواصل — حوّل الإعلام التركي فوز إرهمان مجددًا إلى قراءة داخلية مركزها أنقرة.
“فاز اليسار في قبرص، وخسرت أنقرة” كان العنوان الأول في كثير من الصحف.
هذه النظرة ليست سطحية فقط، بل متعالية أيضًا.
لأن هذه الانتخابات لم تكن “رسالة إلى أنقرة”، بل كانت “انعكاسًا لنظرة الشعب القبرصي التركي إلى نفسه”.
لكنهم لم يريدوا أن يروا ذلك.
ما زال الإعلام التركي، للأسف، ينظر إلى قبرص كأنها “امتداد” له،
كأنها مسرح صغير لسياساته الداخلية.
بينما الناخب القبرصي اليوم يصوّت بعقلانية لا بردّ فعل.
وبدل أن يروا هذا التغير، تمسك كثير من الكتّاب بالكليشيه القديمة:
“من وقف ضد أنقرة هو من فاز.”
بل وربط بعضهم الأمر بـ“قوى خارجية” و“أحلام فيدرالية”.
وهكذا، لم تتحدث كتاباتهم عن إرادة الشعب، بل عن أوهامهم الخاصة.
في الحقيقة، كانت هذه الانتخابات تعبيرًا عن رغبة الشعب في علاقات قائمة على الاحترام مع تركيا، وعن بحثه عن العدالة في الداخل.
لكن تلك الجملة النمطية — “فاز اليسار وخسرت أنقرة” — تُهين الشعب القبرصي التركي كما تُهين القارئ التركي أيضًا.
والأخطر من ذلك:
أن الشعب التركي كوَّن نظرته عن القبارصة الأتراك منذ عقود عبر هذا الخطاب الإعلامي المتعجرف، السطحي، المتعالي.
ولهذا أتلقى حتى من أكثر أصدقائي انفتاحًا وثقافةً رسائل من نوع “ماذا حصل؟ هل استسلمتم للروم؟”.
مهمة الصحفي أن يُعلِّم الشعب ويطلعه على الحقيقة،
لكن عليه أيضًا أن يدرك أنه يصنع الرأي العام، وأن يُحدث معلوماته باستمرار.
وللأسف، في الإعلام التركي تظهر متلازمة “الخبير في كل شيء” حتى عندما يكون الموضوع قبرص.
ومع ذلك، بدا وكأن شيئًا ما بدأ يتغير بعد الانتخابات.
ففي الليلة الماضية، لم أستطع النوم، وبينما كنت أتجول بين القنوات التلفزيونية، صادفت برنامجًا على قناة TGRT يجمع ناغيهان ألجي، شامل طيار، وجِم كوجوك يتحدثون عن قبرص.
قلت في نفسي: “سيكون هذا مثيرًا… لا بد أنهم سيُطلقون مجددًا عباراتهم المتعالية.”
لكنني فوجئت.
قال جم كوجوك: “القبارصة الأتراك يفكرون بطريقة مختلفة عنا، وهذا طبيعي. إنهم متمسكون بحريتهم، وإعلامهم وقضاؤهم مستقلان.”
وقالت ناغيهان ألجي: “خطة عنان كانت فرصة ضائعة.”
واتفق الجميع على أن الانتخابات شرعية، وأن إرهمان شخصية محترمة، وأن لا داعي للقلق.
وأضافت ألجي أن تدخّل الإعلام التركي بهذا الشكل أمر خاطئ، بل استخدمت عبارة “هزيمة الإعلام التركي”.
كان ذلك رائعًا.
ربما — خلافًا لما كان يُقال لسنوات — بدأت شرارة وعي جديدة تُضيء أخيرًا.
وربما آن الأوان لننظر إلى قبرص لا من علٍ، بل من موقعٍ متكافئ، جنبًا إلى جنب.